فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والنوع الثالث: من أحوال القيامة قوله: {وحشرناهم فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} والمعنى جمعناهم للحساب فلم نغادر منهم أحدًا، أي لم نترك من الأولين والآخرين أحدًا إلا وجمعناهم لذلك اليوم، ونظيره قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الأولين والأخرين لَمَجْمُوعُونَ إلى ميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الواقعة: 49- 50] ومعنى لم نغادر لم نترك، يقال: غادره وأغدره إذا تركه ومنه الغدر ترك الوفاء، ومنه الغدير لأنه ما تركته السيول، ومنه سميت ضفيرة المرأة بالغديرة لأنها تجعلها خلفها.
ولما ذكر الله تعالى حشر الخلق ذكر كيفية عرضهم، فقال: {وَعُرِضُواْ على رَبّكَ صَفَّا} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في تفسير الصف وجوه:
أحدها: أنه تعرض الخلق كلهم على الله صفًا واحدًا ظاهرين بحيث لا يحجب بعضهم بعضًا، قال القفال: ويشبه أن يكون الصف راجعًا إلى الظهور والبروز، ومنه اشتق الصفصف للصحراء.
وثانيها: لا يبعد أن يكون الخلق صفوفًا يقف بعضهم وراء بعض مثل الصفوف المحيطة بالكعبة التي يكون بعضها خلف بعض، وعلى هذا التقدير فالمراد من قوله صفًا صفوفًا كقوله: {يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر: 67] أي أطفالًا.
وثالثها: صفًا أي قيامًا، كما قال تعالى: {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] قالوا قيامًا.
المسألة الثانية:
قالت المشبهة قوله تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ والملك صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] يدل على أنه تعالى يحضر في ذلك المكان وتعرض عليه أهل القيامة صفًا، وكذلك قوله تعالى: {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا} يدل على أنه تعالى يحضر في ذلك المكان، وأجيب عنه بأنه تعالى جعل وقوفهم في الموضع الذي يسألهم فيه عن أعمالهم ويحاسبهم عليها عرضًا عليه، لا على أنه تعالى يحضر في مكان وعرضوا عليه ليراهم بعد أن لم يكن يراهم، ثم قال تعالى: {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ} وليس المراد حصول المساواة من كل الوجوه، لأنهم خلقوا صغارًا ولا عقل لهم ولا تكليف عليهم بل المراد أنه قال للمشركين المنكرين للبعث المفتخرين في الدنيا على فقراء المؤمنين بالأموال والأنصار: {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ} عراة حفاة بغير أموال ولا أعوان ونظيره قوله تعالى: {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خلقناكم أول مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم وَرَاء ظُهُورِكُمْ} [الأنعام: 94] وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بآياتنا وَقَالَ لأَوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم: 77]- إلى قوله- {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: 80] ثم قال تعالى: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا} أي كنتم مع التعزز على المؤمنين بالأموال والأنصار تنكرون البعث والقيامة فالآن قد تركتم الأموال والأنصار في الدنيا وشاهدتم أن البعث والقيامة حق، ثم قال تعالى: {وَوُضِعَ الكتاب} والمراد أنه يوضع في هذا اليوم كتاب كل إنسان في يده إما في اليمين أو في الشمال، والمراد الجنس وهو صحف الأعمال: {فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} أي خائفين مما في الكتاب من أعمالهم الخبيثة وخائفين من ظهور ذلك لأهل الموقف فيفتضحون، وبالجملة يحصل لهم خوف العقاب من الحق وخوف الفضيحة عند الخلق ويقولون يا ويلتنا ينادون هلكتهم التي هلكوها خاصة من بين الهلكات: {مَّالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} وهي عبارة عن الإحطاة بمعنى لا يترك شيئًا من المعاصي سواء كانت أو كبيرة إلا وهي مذكورة في هذا الكتاب ونظيره قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين كِرَامًا كاتبين يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10-12] وقوله: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] وإدخال تاء التأنيث في الصغيرة والكبيرة على تقدير أن المراد الفعلة الصغيرة والكبيرة: {إِلاَّ أَحْصَاهَا} إلا ضبطها وحصرها، قال بعض العلماء: ضجوا من الصغائر قبل الكبائر؛ لأن تلك الصغائر هي التي جرتهم إلى الكبائر فاحترزوا من الصغائر جدًا: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا} في الصحف عتيدًا أو جزاء ما عملوا: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} معناه أنه لا يكتب عليه ما لم يفعل، ولا يزيد في عقابه المستحق، ولا يعذب أحدًا بجرم غيره، بقي في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قال الجبائي: هذه الآية تدل على فساد قول المجبرة في مسائل: أحدها: أنه لو عذب عباده من غير فعل صدر منهم لكان ظالمًا.
وثانيها: أنه لا يعذب الأطفال بغير ذنب.
وثالثها: بطلان قولهم لله أن يفعل ما يشاء ويعذب من غير جرم لأن الخلق خلقه إذ لو كان كذلك لما كان لنفي الظلم عنه معنى لأن بتقدير أنه إذا فعل أي شيء أراد لم يكن ظلمًا منه لم يكن لقوله إنه لا يظلم فائدة فيقال له.
أما الجواب عن الأولين فهو المعارضة بالعلم والداعي، وأما الجواب عن هذا الثالث فهو أنه تعالى قال: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} [مريم: 35] ولم يدل هذا على أن اتخاذ الولد صحيح عليه فكذا هاهنا.
المسألة الثانية:
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يحاسب الناس في القيامة على ثلاثة يوسف، وأيوب، وسليمان فيدعو بالمملوك ويقول له: ما شغلك عني فيقول جعلتني عبدًا للآدمي فلم تفرغني، فيدعو يوسف عليه السلام، ويقول: كان هذا عبدًا مثلك فلم يمنعه ذلك عن عبادتي فيؤمر به إلى النار، ثم يدعو بالمبتلي فإذا قال شغلتني بالبلاء دعا بأيوب عليه السلام فيقول: قد ابتليت هذا بأشد من بلائك فلم يمنعه ذلك عن عبادتي فيؤمر به إلى النار، ثم يؤتى بالملك في الدنيا مع ما آتاه الله من الغنى والسعة فيقول: ماذا عملت فيما آتيتك فيقول شغلني الملك عن ذلك فيدعى بسليمان عليه السلام فيقول: هذا عبدي سليمان آتيته أكثر ما آتيتك فلم يشغله ذلك عن عبادتي اذهب فلا عذر لك ويؤمر به إلى النار».
وعن معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لن يزول قدم العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن جسده فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين أكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه كيف عمل به».
المسألة الثالثة:
دلت الآية على إثبات صغائر وكبائر في الذنوب، وهذا متفق عليه بين المسلمين إلا أنهم اختلفوا في تفسيره فقالت المعتزلة: الكبيرة ما يزيد عقابه على ثواب فاعله، والصغيرة ما ينقص عقابه عن ثواب فاعله، واعلم أن هذا الحد إنما يصح لو ثبت أن الفعل يوجب ثوابًا وعقابًا وذلك عندنا باطل لوجوه كثيرة ذكرناها في سورة البقرة، في إبطال القول بالإحباط والتكفير بل الحق عندنا أن الطاعات محصورة في نوعين: التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فكل ما كان أقوى في كونه جهلًا بالله كان أعظم في كونه كبيرة، وكل ما كان أقوى في كونه إضرارًا بالغير كان أكثر في كونه ذنبًا أو معصية فهذا هو الضبط. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {ويوم نُسَيِّر الجبال} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يسيرها من السير حتى تنتقل عن مكانها لما فيه من ظهور الآية وعظم الإعتبار.
الثاني: يسيرها أي يقللها حتى يصير كثيرها قليلًا يسيرًا.
الثالث: بأن يجعلها هباء منثورًا.
{وترى الأرض بارزة} فيه وجهان:
أحدهما: أنه بروز ما في بطنها من الأموات بخروجهم من قبورهم.
الثاني: أنها فضاء لا يسترها جبل ولا نبات.
{وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدًا} فيه ثلاثة تأويلات.
أحدها: يعني فلم نخلف منهم أحدًا، قاله ابن قتيبة، قال ومنه سمي الغدير لأنه ما تخلفه السيول.
الثاني: فلم نستخلف منهم أحدًا، قاله الكلبي.
الثالث: معناه فلم نترك منهم أحدًا، حكاه مقاتل.
قوله عز وجل: {وعُرِضوا على ربِّك صَفًّا} قيل إنهم يُعرضون صفًا بعد صف كالصفوف في الصلاة، وقيل إنهم يحشرون عراة حفاة غرلًا، فقالت عائشة رضي الله عنها فما يحتشمون يومئذ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «{لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه}» [عبس: 37].
قوله عز وجل: {ووضع الكتابُ} فيه وجهان:
أحدهما: أنها كتب الأعمال في أيدي العباد، قاله مقاتل.
الثاني: أنه وضع الحساب، قاله الكلبي، فعبر عن الحساب بالكتاب لأنهم يحاسبون على أعمالهم المكتوبة.
{فترى المجرمين مشفقين مما فيه} لأنه أحصاه الله ونسوه.
{ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يُغادِرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها}.
وفي الصغيرة تأويلان:
أحدهما: أنه الضحك، قاله ابن عباس.
الثاني: أنها صغائر الذنوب التي تغفر باجتناب كبائرها.
وأما الكبيرة ففيها قولان:
أحدهما: ما جاء النص بتحريمه.
الثاني: ما قرن بالوعيد والحَدِّ.
ويحتمل قولًا ثالثًا: أن الصغيرة الشهوة، والكبيرة العمل.
قال قتادة: اشتكى القوم الإحْصاء وما اشتكى أحد ظلمًا، وإياكم المحقرات من الذنوب فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه.
{ووجَدوا ما عَملوا حاضِرًا} يحتمل تأويلين:
أحدهما: ووجدوا إحصاء ما عملوا حاضرًا في الكتاب.
الثاني: ووجدوا جزاء ما عملوا عاجلًا في القيامة.
{ولا يظلم ربك أحدًا} يعني من طائع في نقصان ثوابه، أو عاص في زيادة عقابه. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {ويوم نسير الجبال} الآية. التقدير: واذكر يوم، وهذا أفصح ما يتأول في هذا هنا، وقرأ نافع والأعرج وشيبة وعاصم وابن مصرف وأبو عبد الرحمن {نسير} بنون العظمة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والحسن وشبل وقتادة وعيسى: {تسيَّر} بالتاء، وفتح الياء المشددة {الجبالُ} رفع، وقرأ الحسن: {يُسيَّر} بياء مضمونة، والثانية مفتوحة مشددة، {الجبال} رفعًا، وقرأ ابن محيصن {تَسِير}: بتاء مفتوحة وسين مكسورة، أسند الفعل إلى {الجبال}، وقرأ أبي بن كعب: {ويوم سيرت الجبال}.
وقوله: {بارزة} إما أن يريد أن الأرض، لذهاب الجبال والظراب والشجر، برزت وانكشفت، وإما أن يريد: بروز أهلها، والمحشورين من سكان بطنها {وحشرناهم} أي أقمناهم من قبورهم، وجعلناهم لعرضة القيامة، وقرأ الجمهور: {نغادر} بنون العظمة، وقرأ قتادة: {تغادر} على الإسناد إلى القدرة أو إلى الأرض، وروى أبان بن يزيد عن عاصم: {يغادَر} بياء وفتح الدال {أحدُ} بالرفع، وقرأ الضحاك {فلم نُغْدِر} بنون مضمومة وكسر الدال وسكون الغين، والمغادرة: الترك، ومنه غدير الماء، وهو ما تركه السيل، وقوله: {صفًا} إفراد نزل منزلة الجمع، أي صفوفًا، وفي الحديث الصحيح يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفًا يسمعهم الداعي وينفدهم البصر، الحديث بطوله، وفي حديث آخر «أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفًا، أنتم منها ثمانون صفًا»، وقوله تعالى: {لقد جئتمونا} إلى آخر الآية مقاولة للكفار المنكرين للبعث، ومضمنها التقريع والتوبيخ، والمؤمنون المعتقدون في الدنيا أنهم يبعثون يوم القيامة، لا تكون لهم هذه المخاطبة بوجه وفي الكلام حذف ويقتضيه القول ويحسنه الإيجاز تقديره: يقال للكفرة منهم، {كما خلقناكم أول مرة} يفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلًا {كما بدأنا أول خلق نعيده} [الأنبياء: 104].
{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ}.
{الكتاب} اسم جنس، يراد به كتب الناس التي أحصاها الحفظة لواحد واحد، ويحتمل أن يكون الموضوع كتابًا واحدًا حاضرًا، وإشفاق المجرمين: فزعهم من كشفه لهم وفضحه فشكاية المجرمين إنما هي من الإحصاء لا من ظلم ولا حيف، وقدم الصغيرة اهتمامًا بها، لينبه منها، ويدل أن الصغيرة إذا أحصيت، فالكبيرة أحرى بذلك، والعرب أبدًا تقدم في الذكر الأقل من كل مقترنين، ونحو هذا هو قولهم: القمران والعمران، سموا باسم الأقل تنبيهًا منهم، وقال ابن عباس: الصغيرة الضحك، وهذا مثال، وباقي الآية بين. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ويوم تُسَيَّر الجبال}.
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: {ويوم تُسَيَّر} بالتاء {الجبالُ} رفعًا.
وقرأ نافع وعاصم، وحمزة، والكسائي: {نُسَيِّرُ} بالنون {الجبالَ} نصبًا.
وقرأ ابن محيصن: {ويوم تَسِيْرُ} بفتح التاء وكسر السين وتسكين الياء {الجبالُ} بالرفع.
قال الزجاج: {ويوم} منصوب على معنى: اذكر، ويجوز أن يكون منصوبًا على: والباقيات الصالحات خير يومَ تَسِيرُ الجبال.
قال ابن عباس: تُسيَّر الجبال عن وجه الأرض، كما يُسيَّر السحاب في الدنيا، ثم تكسّر فتكون في الأرض كما خرجت منها.